السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
حاجتنا إلي الأمل
الحمد لله والصلاة والسلام علي رسول الله صلي الله عليه وسلم وبعد
لقد ابتليت الأمة بنكبات كثيرة علي مر الدهور والأزمان حتى إلي يومنا هذا ... وأشد أنواع النكبات التي قد تبتلي بها أمة أن يتسرب اليأس إلي القلوب وتتفرغ القلوب من الأمل , عباد الله، ما أحوجَنا ونحن في هذا الزمن، زمن الفتن والغموض إلى عبادة الأمل. فمن يدري؟! ربما كانت هذه المصائب بابًا إلى خير مجهول، ورب محنة في طيها منحة، أوليس قد قال الله: (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ) (البقرة:216)؟! {.... فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (النساء :19)
الأمل : هو توقع حدوث شيء طيب في المستقبل مستبعد حصوله , وانشراح النفس في وقت الضيق والأزمات . وهو عبادة الوقت .
الأمل للأمة كالروح للجسد:
فلولا الأمل ما بني بان , ولا غرس غارس , ولولا الأمل لما تحققت كل الإنجازات التي وصلت إليها البشرية . وذلك لأن المخترع لم يتمكن غالبا من تحقيق انجازه من أول مرة . أديسون بعدما أخطأ 999 مرة نجح في صنع أول مصباح كهربائي .
وإلا فما يدفع الزارع لي الكد والعرق ويرمي بحبات البذور في الطين ؟ إنه أمله في الحصاد وجني الثمار .
وما الذي يغري التاجر بالأسفار والمخاطر ومفارقة الأهل والأوطان ؟ إنه الأمل في الربح .
وما الذي يدفع الطالب إلي الجد والمثابرة والسهر والمذاكرة ؟ إنه أمله في النجاح.
وما لذي يحفز الجندي إلي الاستبسال في القتال والصبر علي قسوة الحرب ؟ إنه أمله في إحدى الحسنيين إما نصر وإما شهادة .
وما الذي يجعل المريض يتجرع الدواء المرير وربما في ببعض الأحيان أن يقطع من جسده في عملية جراحية ؟إنه أمله في العافية .
وما الدافع الذي يجعل المؤمن يسلك سلوكا تكرهه نفسه وبه يخالف هواه ويطيع ربه ؟ إنه أمله في مرضاة خالقه والجنة .
فالأمل قوة دافعة تشرح الصدر وتبعث النشاط في الروح والبدن , واليأس يولد الإحباط فيؤدي إلي الفشل .
اليأس توأم الكفر:
لأنه سوء ظن بالله قال الله تعالى : {وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } (يوسف:87)
وفي معركة أحد يقول ربنا عن طائفة اليائسين {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (آل عمران :154) فالذين تهمهم أنفسهم فهم في قلق وفي أرجحة يحسون أنهم مضيعون ولم تطمئن قلوبهم إلى أن ما أصابهم إنما هو ابتلاء للتمحيص وليس تخلياً من الله عن أوليائه لأعدائه ولا غلبة للكفر والشر والباطل فهم الطائفة ذوو الإيمان المزعزع ولم تكتمل في قلوبهم حقيقة الإيمان , وهم لا يعرفون الله على حقيقته فهم يظنون بالله غير الحق كما تظن الجاهلية . ومن الظن غير الحق بالله أن يتصوروا أنه سبحانه مضيع جنده ودينه .
وحكم علي اليائسين بالبوار فقال تعالي :{بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا} (الفتح :12) يقول الشهيد سيد قطب: وهكذا يوقفهم عرايا مكشوفين ، وجهاً لوجه أمام ما أضمروا من نية ، وما ستروا من تقدير ، وما ظنوا بالله من السوء . وقد ظنوا أن الرسول ومن معه من المؤمنين ذاهبون إلى حتفهم ، فلا يرجعون إلى أهليهم بالمدينة؛ وقالوا : يذهب إلى قوم قد غزوه في عقر داره بالمدينة ، وقتلوا أصحابه فيقاتلهم! يشيرون إلى أحد والأحزاب ولم يحسبوا حساباً لرعاية الله وحمايته للصادقين المتجردين من عباده .
لقد ظنوا ظنهم ، وزين هذا الظن في قلوبهم ، حتى لم يروا غيره ، ولم يفكروا في سواه . وكان هذا هو ظن السوء بالله ، الناشئ من أن قلوبهم بور . وهو تعبير عجيب موح . فالأرض البور ميتة جرداء . وكذلك قلوبهم . وكذلك هم بكل كيانهم . بور . لا حياة ولا خصب ولا إثمار . وما يكون القلب إذ يخلو من حسن الظن بالله؟ لأنه انقطع عن الاتصال بروح الله؟ يكون بوراً . ميتاً أجرد نهايته إلى البوار والدمار .( في ظلال القرآن)
والقنوط صفة أهل الضلال قال رب العزة سبحانه : {قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ} (الحجر :56)
فالتشاؤم والطيرة شرك بالله تعالى ، فالمؤمن يثق بموعود الله تعالى فلا يحزن ولا يضيق صدره بل يعلم أنَّ الغلبة لابد لأهل الإيمان .
روى البخاري وأبو داود والنسائي وأحمد عَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ قَالَ شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِى ظِلِّ الْكَعْبَةِ فَقُلْنَا أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلاَ تَدْعُو لَنَا . (فَجَلَسَ مُحْمَرًّا وَجْهُهُ -زيادة عند أبي داود وأحمد) فَقَالَ « قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِى الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ ، وَيُمَشَّطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ ، وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرُ ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ » .
فالصحابة رضوان الله ضٌربوا وعُذِّبوا وأُوذوا وضُيِّق عليهم في أرزاقهم وحُوصروا في شعب أبي طالب حتى أكلوا أوارق الأشجار وتقيّحت شفاههم وضاقت عليهم الأرض بما رحبت , وكانوا قبل البعثة أو إن شئت فقل قبل حدوث ثورة الإسلام علي الكفر والطغيان كانوا يعيشون ويأكلون ويشربون ولم تمر بهم هذه الأزمات ولم يمروا بهذه القلاقل وأياًّ كانت العيشة فالمهم أنهم كانوا يعيشون , وليست المدة هينة لقد صبروا ثلاث عشرة سنة في العهد المكي , فالنفوس قد ملت وسئمت الاضطرابات والتضييق , فمن يوم أن قامت ثورتك يا رسول الله لم نر يوم راحة فلتطلب من السماء التدخل الفوري لحل الأزمة هكذا لسان حالهم ينطق .
(فَجَلَسَ مُحْمَرًّا وَجْهُهُ) غضب صلي الله عليه وسلم لتسرب اليأس إلي قلوبهم , وحتى لو طالت المدة وانعدمت الأسباب وانقطع شعاع النور وبدت الدنيا ظلاما , ولذلك قال فيما رواه مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ « إِذَا قَالَ الرَّجُلُ هَلَكَ النَّاسُ . فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ » . قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ لاَ أَدْرِى أَهْلَكَهُمْ بِالنَّصْبِ أَوْ أَهْلَكُهُمْ بِالرَّفْعِ . وقَالَ أَبُو دَاوُدَ قَالَ مَالِكٌ إِذَا قَالَ ذَلِكَ تَحَزُّناً لِمَا يَرَى فِى النَّاسِ - يَعْنِى فِى أَمْرِ دِينِهِمْ - فَلاَ أَرَى بِهِ بَأْساً وَإِذَا قَالَ ذَلِكَ عُجْباً بِنَفْسِهِ وَتَصَاغُراً لِلنَّاسِ فَهُوَ الْمَكْرُوهُ الَّذِى نُهِىَ عَنْهُ .
إن اليأس داء خطير , العاجزون عن الإصلاح والمأجورون وأصحاب المصالح والمُعَوِّقون يزرعونه بين أفراد الأمة خدمة مجانية لأعدائها .
وإن أعداء الإصلاح والمرعوبين من تطبيق شرع الله لأن أيديهم أول أيد بطشت وأول أيد سرقت فيخشون أن تكون أول أيد تقطع فيحاولون زراعة اليأس في قلوبنا حتى نيأس ونقنط من رحمة الله في تغيير أحوالنا وحتى يقول الناس (ولا يوم من أيام المخلوع)
(قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ) لقد كان للحكام والرؤساء والزعماء جنود البطش والطغيان وزبانية السجون فلقد حصنوا أنفسهم بأجهزة لأمن دولتهم عفوا لأمن سلطانهم . ومع أجهزة أمنهم أجهزة لتسويق جرمهم وتزيين أباطيلهم أجهزة إعلامية مأجورة .
والخطير أن هناك بعض الناس يذعن للدين ما دام فيه خير له ومنفعة وإلا انقلب عليه وانسل من تحت عباءته {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (الحـج :11)
{لَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } (النور:46-52)
فآيات الله بينة واضحة هادية لكل خير وشريعته نفع كلها خير كلها مصلحة كلها عدل كلها ولكن المنافقين يُظْهرون الإيمان ويتشدقون بالوطنية وحب الوطن وهم لا يحبون إلا ذواتهم ومصالحهم ولا يدينون بدين الحق إلا إذا كانت فيه لهم مصلحة دنيوية خاصة وما هذا إلا مرض القلوب وعدم الثقة في الله وفي دينه .
ولكن في المقابل دائما من يضحون بدمائهم وأجساده وأرواحهم وأولادهم استبقاء للحق ونصرة للدين . فيوضع المنشار علي رؤوسهم ليشقهم نصفين وتقطِّع أمشاط الحديد من لحومهم وأجسادهم ولا يبالون , والأشد من ذلك : القتل المعنوي أن يشيع الباطل والنفاق علي الحق والمصلحين أكاذيب ليظهرهم في صورة العملاء والخونة والأنانيين ومن يعقدون الصفقات , ويروِّجُون ذلك ويسوِّقونه بإعلامهم المضلِّل الذي يؤثر في العامة البسطاء الطيبين تأثير السحر .
وما دفعهم لذلك إلا حبهم لله ولدينه ولأوطانهم ونصرة للحق وثقة في وعده وأملا في أن تحيى من بعدهم الأجيال حياة طيبة بثمرة تضحياتهم .
ولو لم يضحِّ هؤلاء ما وصل الخير والحق والدين لكم يا أصحاب رسول الله ولو لم يضحِّ الصحابة ومن تبعهم علي طريق الجهاد ما وصل إلينا خير ولا حق ولا دين فلنصبر ولنضحِّ ولنأمل في غد مشرق بنور الحق معطَّر بعبير الإسلام .